الأربعاء، 9 سبتمبر 2009

طه حسين ، وإنصافه لأبي العلاء

طه حسين، وإنصافه لأبي العلاء.

كنتُ أقرأ كتاب "طه حسين مع أبو العلاء في سجنه" ، شدني ما حوته عاطفة طه حسين من حُب لأبي العلاء، ذلك الحب الذي أعلنه صراحة، وباردنا به في الصفحات الأولى من كتابه، لينبهنا أنه ليس بصدد النقد هنا لأدب أبو العلاء وفنه وفكره وفلسفته، وإنما هو يعرض سيرة أبو العلاء كما يعرض سيرة صديق أو مُحب، لذلك رأيناه يحاول جاهدا أن يُبرئ سيرة أبو العلاء لدى قراء "اللزوميات أو الفصول والغايات" ، بسبب فلسفته الآثمة في بعض الأحيان ، وإيمانه الكبير بمقدرته العقلية التي جعلته يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، إعتمادا على مقياس العقل الذي كان لا يؤمن بغيره إماما في تسير الإنسان، فأبو العلاء لديه إقتناع تام بمقدرة العقل البشري على أن يكون هاديا مُرشدا في كل ما يعترض البشر من تساؤلات أو مِحن .
إيمان أبو العلاء بمقدرته العقلية جعلته ينتعل الكبرياء لأقصى حدوده، بالرغم من أننا نقرأ تواضعه في كثير من الأحيان حين يُعرض علينا "اللزوميات ، والفصول والغايات" بالرغم من ان هذه المذكورات آنفا هي نفسها ما كان يشحط أبو العلاء فيها برداء كبرياء يتعجب منه القارئ ، بل ربما قد يرمي كاتبه بالكفر كونه أنكر بعض الفروض، وكونه هجا الناس جميعا من ضمنهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
كُنت افكر بطريقة إستعراض طه حسين لسيرة أبو العلاء وذلك الحُب الذي غمره به، حتى أنه صوره بأجمل صورة لقراءه، ودفع عنه الكثير من التُهم. أكان طه حسين متعاطفا مع أبو العلاء كونه" أعمى" ؟! لا أظن ذلك، فذاك بشار بن برد كان أعمى ايضا، ولكن طه حسين لم يكن لينحاز له، او حاول أن يُبرئ ساحته ، بل إنه ذم فكره، وخلقه وهو مُحق فيما ذهب إليه، فبشار كان مُغرقا في ملذاته مُسرفا فيها مُتبجح في المُجاهرة بالمعصية بلا حياء ولا خوف. على ان الإثنين كانا سيئا الظن بالناس ، وكانا متشائمين ، ذلك التشاؤم الذي جعل أحدهم وهو بشار – يركن إلى العهارة والفجور والإباحة، وجعل الثاني "وهو أبو العلاء" يركن إلى الطهر في كل فصول حياته.
إذن الذي جعل "أبو العلاء "ينفرد بمحبة "طه حسين" ربما كون أبو العلاء رجل نقي القلب، رقيق الشعور ، رحيم بالمخلوقات التي لا تعقل ، أو ربما كون أبو العلاء بالرغم من كبرياءه الواضح وإعتزازه بمقدرته العقلية وسوء ظنه بالناس"كونه لا يرى تصرفاتهم ولا هيئاتهم" ، وإنكاره بعض الفروض، بل وإنكاره البعث في أحايين كثيرة، إلا أننا حين نتتبع كلام طه حسين عنه، نجده فعلا قد نقى سيرته، وبين لنا الخصال الحميدة التي تميزه وتبرا ساحته لدى قراءه.
ولا ينكر "طه حسين" أن أبو العلاء كان إبيقورا ، المعتقد والفكر والفلسفة، في ماديتهم وإيمانهم بالفناء وإنكارهم للبعث"، إلا أنه يذكرنا في أكثر من موضع من كتابه ايضا أن أبو العلاء ،كان يؤمن بالله أشد الإيمان ، بل ويمجده في كثير من مواضع اللزوميات وكتاب الفصول والغايات، ويذهب به عقله أحيانا إلى التواضع، فيترك هوسه بمعرفة "حكمة الله " ويُذعن لعظمته، ويؤمن بالبعث ، ثم ما يلبث أن يأخذه كبرياء وثقته بمقدرته العقلية أن ينكر البعث، كان مُتذبذب الفكر والإعتقاد لفرط ما كان يخلو بنفسه، ولفرط ما كان يثق في عقله.
تعود بنا الحيرة عن سبب إصرار "طه حسين" على تبرأة ساحة "ابو العلاء" بالرغم من كل السلبيات التي تنقص من إيمانه الشيء الكثير . فلا نجد غير أن ما دفع طه حسين لذود التُهم عن "ابو العلاء" هي محبته له والتي يصرح بها في أكثر من مرة من كتابه، وعلل بها سبب دفاعه عنه.
ذلك الحُب الذي بلا شك لم ينوجد في قلب "طه حسين "ناحية ابو العلاء" إلا لأن خِصالا تمتع بها ابو العلاء وقعت في قلب طه حسين وجعلته يكبره في قلبه وفي نفسه، تلك الخصال الإنسانية التي هي روح الدين حين قال "ص" :"الدين المُعاملة" ، فنحن حين نُحب صفة حميدة ، فمما لا شك فيه اننا نُحب من يتخلق بها.
أقنعني "طه حيسن بطهر يسكن أبو العلاء، بالرغم من كل ما فسد به إيمانه من معتقدات.
همسة:
الكثير من الكُتَاب ، يتخلقون بخلق طه حسين، فيبعثون شمائل وميزات زُملاء الحرف والفكر الذين لم يبقى من أثرهم سوى كتبهم وفلسفة تضج بها تلك الكتب ، بخيرها وشرها ، بإعتدالها وجورها، إلا أنهم ينبشون في جماليات الشخصية، وإيجابات الفكر، والكثير منهم غير ذلك للأسف، ممن ينبشون في عورات الموتى ، ويُغالون في إنتقادهم وإبراز مساؤهم ويغضون الطرف عن محاسنهم ومميزاتم.
عُلا الشكيلي
سبق نشر المقال بملحق آفاق الثقافي التابع لجردية الشبيبة
الأربعاء بتاريخ9\9\2009

ليست هناك تعليقات: