الأربعاء، 2 سبتمبر 2009

لحظات روحانيىة


لحظات روحانية.


كثيرا ما تسيطر علينا لحظات تأملية تسافر بأرواحنا خلف نطاق الواقع، لا ندري مصدرها الفعلي، ولا أي موقف أو حدث رمى بها في عقولنا ولا كيف إنتعلت خيالنا، تجدنا هكذا فجأة نمسك بزمام لحظة ، نرتحل معها مُتسكعين في خيالاتنا أو مشدوهين بأفكارا توالدت على إثرها في رحلة نستكشف منها الكثير من أسرار هذا الكون الممتلئ غرابة في أغلب هيئاته. التأمل رحلة روحية غريبة جدا تقودها في الغالب فكرة لحظة إنحرفت بعض تفاصيلها عن مسارها المألوف لدينا، فنلاحقها لنمسك بها، ولكنها ترحل بنا في فضاء آخر، فضاء غريب بطقوسه بأسراره، بشعوره الذي يختلج في داواخلنا . ومن عجائب هذه اللحظات أنها تنولد من أشياء سابقا كانت تعبرنا بسلام، دون أن ندرك خفاياها أو أن تجبرنا على الرحيل معها في لحظة روحية تأملية تسبح بنا في سماء الفكر. تُرى ما الذي يجعلنا احيانا نرتحل مُحلقين بخيالنا وفكرنا خلف مشهد معين، قد نكون صادفناه مرارا سابقا، إلا أننا نراه في تلك اللحظة بهئية مختلفة يجعلنا نفكك كل جزئية فيه، وننتزع أنفسنا من الواقع، مُجبرين على التحليق خلف أسراب فكرة أتى بها المشهد ذاك، وتوالدت على إثرها أفكار وتأملات روحية كثيرة، قد تجعلنا ندرك أمورا لم نكن ندركها من قبل، ونستكشف أشياء كانت أمامنا إسابقا لا أننا لم نكن نبصرها!.
قرأتُ مرة أن فنانا تشكيليا وكاتب أمريكي يُدعي"هولي بريدجز إيليوت ذكر في كتابه" أن ترى الله في وجوه عديدة" ، تجربة حدثت له في يوم عادي للغاية ،كان الوقت ظهرا وقد وقف في مطبخ بيته، يشاهد أطفاله يأكلون سندويشات زبدة الفول السوداني، كان يوميا روتينيا بلا أحداث مميزة ، ووسط تتابع الاحداث العادية، توقف فجأة، ونظر حوله، كأنه يفتح عينيه للمرة الأولى في تلك الظهيرة!. يقول وهو يسرد لنا المشهد ويصف لنا إحساسه ذاك:"كأن الغرفة قد غمرها ضياء وفاضت بحياة نابضة، لدرجة أن بدا لي أن كل الأشياء قد ثبتت عند تلك اللحظة!، لكنها أيضا كانت تنبض مثل موجات ضوء متتابعة، كبر داخلي إحساس بالبهجة، وكان رد فعلي التلقائي، هو شعور بالإمتنان، كان إمتنانا لكل شيء صغير في تلك المساحة التي وقفتُ فيها. بدت لي الحجرة التي ضمتنا معا ، كأنها حضن دافئ، بدا لي الماء المتدفق من الصنبور كأنه معجزة، وبدا أطفالي، للحظة ، أنهم ليسوا مجرد أولادي، واجبي أو مسؤوليتي، لكن كائنات غاية في التفرد والتعقيد، كائنات سيأتي يوما من عمري الآتي أفهم فيه إكتمالهم المدهش".

جميعنا ربما عايشنا تلك اللحظة التي عايشها الكاتب ذاك، ولكن قليلة هي المرات التي تعبرنا فيها بذات الإحساس والشعور نفسه. ليس التأمل في الموجودات ينولد من لحظات مشابهه، وإنما هي عند كل منا تأتي بشكل مختلف، وتنولد في موقف مختلف أيضا. أذكر مرة أنني وقفتُ أتأمل يدي وهي تمتد إلى صحن الفواكه، لا أدري لما تسمرت عيناي فجأة تتأمل يدي ، التي إمتدت بسرعة البرق فور شعوري بالرغبة في قضم فاكهة معينة من ذاك الصحن، فجأة يتوقف مشهد اللحظة، لأشاهده من زاوية أخرى، وبطريقة مختلفة عن كل المرات التي عبرتني فيها سابقا ، فصرتُ أتابع نبض اللحظة بعيدا عن رغبتي تلك، بل صرتُ أتأمل ما إنولد من الشعور بالرغبة وأتتبع تكوينها إلى لحظة إكتمالها، بدت لي يدي أيضا أنها آلة معقدة التكوين ، أو جندي يتبع سير قائده"العقل" فور إرسال إشارات إليه بأن ثمة رغبة تكمن في الجسد المحتوي لهم ، إلى قضم تلك الفاكهة دون غيرها، ثم يأتي دور الفم واللسان والأسنان، وتتهيأ المعدة لإستقبال تلك الفاكهة، من أجل قضم فاكهة واحدة، تعمل عدة أجهزة فينا بمنتهى الدقة، فكنتُ اردد سبحان الله، كيف أن الإنسان بالغ الضعف، وأنه غاية في الدقة أيضا، كما كان الكاتب إيليوت يرى أبناءه، كنتُ أتساءل : ماذا لو أن أحد تلك الأجندة تعطل أو أصابه العطب فجأة؟ هل ستكتمل اللحظة كيفما رسم لها العقل؟!.
لحظات التأمل على القدر الذي تُريحنا فيه، حين تبعدنا عن واقع منغمس في حركات لا تهدأ، فإنها أيضا تجعلنا نكتشف أمورا كنا قد غفلنا عنها سابقا، نخرج منها بأنوار روحية وربانية غريبة، تجعلنا أكثر يقينا أن خلف هذا الكون مُبدع تجلت قدرته في كل شيء.

عُلا الشكيلي
سبق نشر المقال مؤخرا بملحق آفاق الثقافي التابع لجريدة الشبيبة2\9\2009

ليست هناك تعليقات: